مقالات

عولمة التفاهة

عولمة التفاهة

 

بالرغم من حديثنا المتكرر رسمياً وشعبياً عن أهمية الثقافة في الحفاظ على الهوية والحضارة وحمايتها من لوثة العولمة وسلبياتها، وبالرغم من الخطابات الرنانة في مواجهة الغزو الفكري، يمكن للمتابع أن يرى أننا نسير بغالبيتنا – عن وعي أو دونما إدراك- في مسار عولمة “التفاهة” التي تحولت بفعل طوفان السوشيال ميديا إلى سياق عام يهدد هويتنا وثقافتنا الحضارية والإنسانية.

ربما لا يدرك الكثير منا مخاطر سيطرة “التفاهة” على مستقبل العالم من منظور أخلاقي وإنساني، وقد لا يدرك الكثير أيضاً أننا “شركاء”، أو بتعبير أدق “أدوات” في نشر وانتشار “نظام التفاهة” ثقافياً واجتماعياً وإعلامياً وأخلاقياً واقتصادياً.

وبالرغم من أننا نشكو هذه الأيام ونتحدث كثيراً عن سيطرة التافهين على تفاصيل ومفاصل الحياة العامة بمختلف ميادينها، على حساب تراجع وانحسار دور أصحاب القدرات والخبرات والإمكانيات، حيث طغى الشكل على المضمون، وأسلوب العرض على الفكرة، والمال على الأخلاق، والسطحية والإبتزال على الفكر العميق والقيم، والشذوذ على الطبيعة البشرية، إلاّ أننا لا نقوم بالكثير من العمل لمواجهة هذه السيطرة.

أن يتم افتتاح فندق للقطط في العاصمة دمشق وآخر للكلاب وإنفاق الملايين على هكذا “صرعات تافهة” في وقت ترزح فيه معظم الأسر السورية تحت سكين الجوع، لعمري أنه التفاهة بعينها.

أن يتحدث مسؤول حكومي عن توفر المواد الغذائية في الأسواق دون التفكير في قدرة السوريين على شرائها، لهو الانفصال عن الواقع والضرب على أوجاع الناس بطريقة تؤلم أكثر من الألم ذاته.

نشتم الغرب الذي يسبغ على نفسه صفة “العالم الحر” أو “العالم الديمقراطي” لأنه يحاول نسف أسس الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم من ذكر وأنثى، ولكن ماذا نفعل لتحصين مجتمعاتنا من هجمة التفاهة والشذوذ هذه؟

الولايات المتحدة تفخر بأنها “أمة المثلية” (الشذوذ) بحسب الرئيس بايدن، وهناك العديد من الدول الغربية سنت القوانين التي تشرعن “الزواج المثلي” في قوانينها ودساتيرها الوطنية؟ فهل يبقى هذا التوجه محصوراً في تلك الدول أم ستحاول تصديره إلى بقية دول العالم باعتباره نمط حياة الدول “المتحضرة”؟

اقرأ أيضاً: رسائل الإرهاب في دمشق

في عام 2017 التقطت السيدات الأول (زوجات رؤساء) دول حلف الناتو صورة جماعية في العاصمة البلجيكية بروكسل على هامش اجتماع الحلف آنذاك، والغريب في الصورة وجود رجل بين النساء، تبين لاحقاً أنه (زوجة) رئيس وزراء لوكسمبورغ المثلي!! أي تفاهة هذه وأي سقوط أخلاقي هذا، وأي انتهاك لقاعدة خلق الله للإنسان؟ وأي نسف لرابطة الزواج وبناء الأسرة؟!

بالمقابل نجد أن رئيس زيمبابوي روبرت موغابي بحسب ما نقلت الصحافة، وعد بإطلاق سراح رجلين مثليين محبوسين بشرط أن يحمل أحدهما من الآخر، حيث تم وضع الرجلين في السجن بعدما تقدما بطلب للزواج وقيل لهما أنجبا طفلاً وسيتم إطلاق سراحكما فوراً، كدليل على أساس فكرة الزواج وبناء الرابطة الأسرية.

في الثقافة الغربية تتجه النتاجات الأدبية والفنية نحو التابوهات والمحرمات ونشر الشذوذ ومفاهيم الليبرالية الحديثة لفرضها على العالم، وتكريس أصحاب هذه الروايات والأفلام من خلال منحهم جوائز عالمية وتسخير منافذ الإعلام للحديث عن نتاجاتهم باعتبارها حالات إبداعية لم يرق إليها أحد من قبل، ويبدو أن هناك من يسير على هذه الخطى في بلادنا العربية.

في الإعلام تحولت برامج تلفزيون الواقع إلى مكان لنشر السقوط الأخلاقي والتعري والانسلاخ عن الأسرة والقيم الاجتماعية وعن السترة والبيت والأسرة باستخدام شخصيات خارجة عن الطبيعة والمألوف، ولم تسلم منها شاشات بعض الدول العربية أو الناطقة بالعربية أو الموجهة للناطقين بالعربية.

فالشاذين هم أبطال الحلقات التي تروج للشذوذ ولا تتحدث عنه كحالة تستوجب المعالجة أو المحاسبة، لأنها برأيهم تدخل في سياق الحريات الفردية التي كرستها الليبرالية الحديثة.

تكريس الفردية والشذوذ والتفاهة هو جزء من مسار الليبرالية الحديثة، فالفرد أهم من المجتمع ومن الأسرة ولو كان هذا الفرد شاذاً، مدمناً أو متوحشاً، أم مقلداً للحيوانات في حياتهم.

يبحث الغرب اليوم بشكل حثيث لإيجاد بدائل للمفردات التي تميز بين الذكر والأنثى، وقريباً سوف يتم تغيب مفردات (هو وهي وذكر وأنثى) عن جوازات السفر وبطاقات الهوية، وسوف يتم حظر استخدام كلمات (أم وأب) والاستعاضة عنهما بكلمة (والد رقم 1 والد رقم 2) ولن يكون ذلك محصوراً في الدول التي تروج لهذه المفردات.. إذ كيف ستتعامل دولة لا تعترف بالتسميات الجديدة مع حامل هوية أو جواز سفر من هذا النوع عند زيارتها؟

عولمة التفاهة لا تقتصر على هذا الجانب بل تتعداها إلى مجالات أخرى، وهي تستخدم أساليب متنوعة للتغلغل في العالم، من خلال تكريس الفردية للتغطية على الكل والجمع، فمثلاً ماذا يعني أن تكرّس وسائل الإعلام العالمية ساعات من البث المباشر على مدى أيام لتغطية عملية إنقاذ الطفل المغربي “ريان” الذي وقع في بئر عام 2022 وما الهدف؟.. هل هو إنساني بحت؟

لا شك أن القضية إنسانية وتستحق الاهتمام الإعلامي، لكن ماذا عن مصير عشرات الآلاف من الأطفال المحرومين من حق التعليم والطبابة والحياة الكريمة في فلسطين وسورية واليمن وليبيا بسبب الحروب الغربية؟

ماذا عن ضحايا الحروب الأمريكية على العراق وأفغانستان الذين تحولوا إلى مجرد أرقام في الإعلام؟ ماذا قدم الإعلام الغربي لهؤلاء؟ ماذا يختلفون عن الطفل ريان؟ أم أن قضيتهم لا تستحق؟

ينشغل الإعلام لأسابيع بحل مشكلة طفل يحلم بلقاء لاعب كرة القدم العالمي ميسي من خلال رجل أعمال أو مسؤول ما، وتتبرع منافذ الإعلام والسوشال ميديا لتحويل القصة كأنها حل لقضية الأطفال في مخيمات اللجوء بل وأكثر أهمية منها.

ولا يسأل هذا الإعلام عن أحلام وآمال ملايين الأطفال في العالم الذين يعانون من الحروب والجوع ولا يجدون قوت يومهم والدواء لأمراضهم؟؟!!

وفي وسائل التواصل الإجتماعي حدّث ولا حرج، فهي المرتع الأوسع الذي تم إنشاؤه لنشر التفاهة والسخافة وتصدير الشخصيات التافهة لتتسيد المشهد ونشر أفكار “تافهة” وجذب الشباب واليافعين لإدخالهم في دهاليز السخافة وانعدام المسؤولية والأخلاق وتسطيح العقول وتمييع الاهتمامات وإبعاد الجيل عن قضاياه الجوهرية أو التفكير بمستقبله ومستقبل أولاده.

إن انتشار اليوتيوبرز والبلوغرز والتيك توكرز والفاشينستا والمغردين وغيرها من التسميات واجتذابهم الملايين من المتابعين على السوشيال ميديا في عالمنا العربي من خلال نشر محتويات منحرفة وهابطة وسخيفة مقابل عائدات مادية مجزية، ليس فيه أي خدمة للبشرية والإنسان، بل يهدف إلى تهديم القيم والأخلاق وإشغال الشباب عن القضايا الكبرى.

وتشكل عولمة المفاهيم والمصطلحات وفرضها عبر الأذرع الإعلامية العالمية جزء من عولمة التفاهة، فالدول الصناعية الاستعمارية التي تشن الحروب على الدول الأخرى تطلق على نفسها اسم “العالم الحر أو الديمقراطي أو المتحضر” فيما تصنّف بقية دول العالم تحت اسم العالم “الاستبدادي الدكتاتوري”.

ومن هنا تجد الإعلام الغربي يقول “هجوم روسيا على أوكرانيا بمثابة هجوم على معايير العالم المتحضر! توسيع الناتو وتدخله في الحرب مع أوكرانيا ضد روسيا وكذلك دعم واشنطن لتايوان هي خطوات أولى في إستراتيجية كاملة لحماية العالم الديمقراطي من الافتراس الاستبدادي!!”

إن عولمة التفاهة تهدف إلى قلب المفاهيم والقيم بما يخدم الليبرالية الحديثة ومنظريها وأصحابها من أرباب المال والحروب والنهب والاستغلال.

يريدون أن يحولوا العالم إلى مخنثين جنسياً وفكرياً وعقائدياً، إلى أشباه رجال وأشباه نساء، أو بدقة أكثر “لا رجال ولا نساء، ولا إنسان” بل مجرد كيانات تتحرك وفق الغايات المادية الرخيصة، تهون لدى هؤلاء القيم والأخلاق، وتباع الأوطان.

عولمة التفاهة ليست مجرد “ترندات” تعيش لأيام وأسابيع وتموت بعدها، بل هي نهج يسير ببطء لكن بشكل حثيث ومتواصل، تُسخّر له الأموال والمنظمات الأممية والمنظمات غير الحكومية الدولية، من أجل عولمة المفاهيم الغربية الشاذة عبر الأزياء واللباس وقصات الشعر والتاتو والبوتوكس وعمليات التجميل واستنساخ الوجوه والأشكال.

أليس ما نعيشه اليوم يقع في صلب التفاهة ومفاهيم الليبرالية الحديثة؟

فحذار مما تنتجه الثقافة المعولمة وما تنشره السوشيال ميديا المحكومة بقواعد وقوانين الليبرالية الحديثة، في الفن والشعر والأدب والميديا والإعلام.

كل هذا يتسلل إلى عقولنا وبيوتنا عبر “نوافذ” شرعناها بأيدينا وبرغبتنا، نوافذ مفتوحة على تربية أطفالنا، على غرف نومنا ومعيشتنا، نوافذ أخطر ما فيها إذا ما تحولنا إلى مدمني هوائها.

عبد الرحيم أحمد – كليك نيوز

المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى