الضائقة الاقتصادية وأثرها على العلاقات الاجتماعية بين السوريين
ساهمت الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريين في تراجع العلاقات الاجتماعية بينهم، فلم يعد حضور مناسبات (أفراح وأتراح) واجب مفروض عليهم كما السابق، وإنّما اقتصر ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.
وذلك بسبب عدم القدرة على تحمل تكاليف المناسبات وخاصة ممن يسكن خارج المحافظة، فإنها تزيد عليهم أعباء السفر، كذلك أثّر سوء الوضع الاقتصادي على ممارسة النشاط الاجتماعي مثل التنزه أو ارتياد المطاعم والكافيهات وغيرها، كل ذلك أضعّف أواصر الروابط والعلاقات الاجتماعية في المجتمع المحلي.
حيث تباينت وجهات النظر بين الناس خلال استطلاع أجراه كليك نيوز، على عينة متباينة بظروفها وأماكن عملها في دمشق، لمعرفة واقع العلاقات الاجتماعية بينهم في ظل الظروف الصعبة.
“تضاؤل العلاقات الاجتماعية”
“سراء ” موظفة تقول خلال السنتين الماضيتين بدأت علاقة أسرتها الاجتماعية مع المحيط تتضاءل حتّى مع أقربائهم بسبب سكنهم في دمشق وأقاربهم في اللاذقية، لذلك اقتصرت زيارتهم على المناسبات الضرورية كالوفاة مثلاً، أما المباركات والتهاني فأغلبها كانت إما هاتفياً، أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدة أن ضيق العيش والفقر خفّف من العلاقات الاجتماعية كثيراً حتى في عملها، فلا رحلات ولا حضور مناسبات كزفاف أو خطوبة أحد زملائها وأصدقائها لأن كل ذلك يتطلب مبالغ لا يستهان بها.
بدوره “لؤي” مهندس وأب لولدين، فقد وصف تراجع العلاقات الاجتماعية بالمخيفة لدرجة أن الأهل لم يعد يجتمعون إلا في المناسبات الضرورية جداً، فكيف بالجيران والمعارف والأقارب، ويرى أن الوضع المادي القاسي لم يترك حيّزاً للتفكير بممارسة طبيعية للحياة الاجتماعية، وإنما جلّ التفكير انحصر بكيفية تأمين القوت اليومي.
للأغنياء فقط
بينما أشارت “علياء” إلى أن العلاقات الاجتماعية أصبحت للطبقة الغنية فقط، تمارسها بشكل طبيعي (زيارات) حضور مناسبات، ومع ذلك ترى من وجهة نظرها الشخصية أنه من الخطأ أن يحدث هذا التباعد الاجتماعي، منوهة على ضرورة ترك الماديات جانباً في ظروف قاسية، حيث من المفترض أن تلغى الهدايا والواجبات التي تتطلب أموال بهدف الحفاظ على ما تبقى من الروح الاجتماعية بين الناس.
وجهة نظر علم الاجتماع
من جهته الدكتور “أحمد الأصفر” أستاذ في “علم الاجتماع” يقول في حديثه لـ كليك نيوز، أن العلاقات الاجتماعية في المجتمع الحديث تشهد تغيّرات واسعة مقارنة مع المراحل التاريخية السابقة، والتي باتت تسيطر عليها الأبعاد المادية والنفعية بالدرجة الأولى.
منوهاً، إلى أنه في الوقت الذي يعتقد فيه الكثيرون أنّ المشكلة إنّما نتاج للأوضاع المعيشية المتردية في كثير من الأحيان، غير أنه يمكن النظر إلى المسألة من زاوية أخرى، فالأوضاع المعيشية الصعبة إنما هي نتاج تردي العلاقات الاجتماعية بين الناس وليس العكس.
مضيفاً، أن ضعف القيم الاجتماعية يؤدي بالضرورة إلى غلبة القيم الفردية وطغيان حبّ المصلحة الذاتية دون النظر إلى ما يترتب على ذلك من أضرار تمس الآخرين.
اقرأ أيضاً: أمام أعين أهاليهم.. أطفال يدمنون “شرب الأركيلة” رغم أضرارها على الصحة
لافتاً، إلى أنه من حيث النتيجة فإن سيطرة القيم النفعية يؤدي بالضرورة إلى ضعف القيم الاجتماعية، لأن هذين النمطين من القيم لا يجتمعان عند الانسان ومع انحلال القيم الاجتماعية والأخلاقية تصبح المنفعة هي الأساس في عمليات تفاعل الفرد مع غيره.
أما القيم الاجتماعية والأخلاقية والتعاون والإيثار فإنها تتراجع، وقد يصل تراجعها إلى حد التلاشي بالنسبة لكثير من الناس.
موضحاً، أنه سرعان ما تظهر تداعيات ذلك على مستوى معيشة الناس وصعوبة الحصول على حاجاتهم الأساسية لأن انحلال القيم الاجتماعية هو الذي يدفع بذوي المنافع إلى الاستئثار بمنافعهم، وبذوي المال إلى الاستئثار بأموالهم، وبذوي النفوذ إلى الاستئثار بنفوذهم.
مبيناً، أنه سرعان ما تتسع مظاهر المشكلة حتى تتراكم المنافع والأموال لدى شرائح اجتماعية، وتتضاءل بالنسبة إلى شرائح اجتماعية أخرى، وتزداد خطورة المشكلة عندما يتضاءل عدد ذوي المنافع والمال وتنمو فيه ثرواتهم، بينما تتسع دائرة الفقراء أكثر وتتضاءل إمكاناتهم وثرواتهم ومنافعهم أيضاً.
ضعف القيم الاجتماعية
أوضح الدكتور “الأصفر” أنّ العوامل التي تؤدي إلى ضعف القيم الاجتماعية وما يترتب عليها من ضعف مماثل في الروابط الاجتماعية مختلفة تماماً عن الظروف المعيشية التي يعيشها الناس، لأنّ القيمة تترسخ في وعي الإنسان من مصداقية الرموز الاجتماعية والثقافية بالنسبة إليه، وخاصة عندما تستقر في وعيه ووجدانه، ويجعلها نموذجاً يقتدي بها ويهتدي بمبادئها.
مشيراً إلى أن رب الأسرة نموذج قدوة بالنسبة إلى أبنائه، وعندما يتلمسون أن العلاقات الاجتماعية التي يقيمها مع غيره من الأقارب والجوار تأتي من باب المنفعة التي يحققها منهم، وليس من باب المنافع التي يقدمها إليهم، فإن هذا النمط السلوكي يصبح معياراً بالنسبة إليهم، ويستقر في وجدانهم، ومباشرة يأخذون بتطبيقه في علاقتهم مع بعصهم، فلا يرى واحد منهم علاقاته الاجتماعية مع أخيه إلاّ من باب المنفعة التي تعود إليه وليس من باب المنفعة التي يمكن أن يقدمها له.
اقرأ أيضاً: مع انعدام القوة الشرائية.. برادات السوريين تتحول إلى “نملية”
مضيفاً، أنه إذا كان الأب بمثابة القدوة بالنسبة لأبنائه، ويرسخ في وعيهم أنماط مشوهة من العلاقات الاجتماعية، حيث أن مختار الحي قدوة بالنسبة إلى رب الأسرة، وكذلك رجل الدين في أماكن العبادة، ومدير العمل في المؤسسة التي يعمل بها، والمعلم بالنسبة إلى الطالب، ومدير المدرسة بالنسبة إلى المعلمين.
ويمتد الأمر إلى كل من هم في عداد قادة الرأي في المجتمع الذين يرسخون في وعي من يتأثرون بهم أنماط من العلاقات الاجتماعية المشوهة القائمة على المضمون النفعي لهذه العلاقات، منوهاً، أن العلاقة الاجتماعية النموذجية هي التي يحقق من خلالها الفرد منافعه، وليست العلاقة التي يتمكن الفرد من خلالها تقديم المساعدة لغيره، لأن قيمة الإنسان وفق منظور القيم النفعية إنما هي بمقدار ما يأخذه من غيره وليس بمقدار ما يعطيه، بحسب قيمة الإنسان من منظور القيم الأخلاقية والإنسانية.
إعادة الروابط الاجتماعية
وبين “أصفر” أنه لا توجد طريقة لإعادة الروابط الاجتماعية إلى سابق عهدها مالم يستقر في وجدان كل فرد من أفراد المجتمع بأن المنافع التي يحققها دون شرعية أخلاقية واجتماعية، ومهما علا شأنها إنما هي تأسيس لخراب اجتماعي مستقبلي يزيد خطورته على كل الأخطار التي شهدها المجتمع في الفترات السابقة.
منوهاً أنه متى استقر الوجدان الاجتماعي الوعي بهذه الخطورة وبخطورة النزعة الفردية يصبح بالإمكان تجنب هذه الأخطار، وكذلك تقويم السلوك وإصلاحه فيما بعد.
وأخيراً يمكن القول إنه من الحكمة سيما في هذه الظروف الاستثنائية أن نعمل جميعاً على تقوية العلاقات الاجتماعية خاصة بين الأقارب وعدم ربطها بالماديات من هدايا وغيرها، كل ذلك بهدف المحافظة على هذا الموروث الاجتماعي الجميل قدر الإمكان.
ميليا اسبر – كليك نيوز
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع