يوم القدس العالمي ٤٣ .. جردة حساب
يوم القدس العالمي ٤٣ .. جردة حساب
ستة أشهر فقط من بعد إعلان إنتصار الثورة الإسلامية في إيران، كانت كفيلة بتغيير الكثير من المعادلات والمفاهيم بالمنطقة، فإذا كان إعلان إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران واستبدالها بافتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية. نزل كالصاعقة على رؤوس قوى الاحتلال والاستكبار، فإنه كان لوقع نزول إعلان الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس ما هو أعظم من صاعقة.
إذ أن القوة المتنامية التي سيحملها هذا الإعلان الذي أتى في ٧ آب ١٩٧٩ ستزلزل الأرض تحت الكيان الإسرائيلي، بإعادة الحياة للقضية الفلسطينية من بعد محاولات إماتتها.
إعلان الإمام الخميني الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس الشريف، في العقيدة هو يوم لإحياء الإسلام ذلك بما تمثله القدس والأقصى في الإسلام من أنها القبلة الأولى للمسلمين، وبالتالي فهو الإعلان الذي يعتمل الدعوة إلى القيام بفعل تحرير القدس والأقصى انطلاقاً من أداء الواجب تجاه المقدسات الدينية.
إضافة لما يحمله من مضامين الصحوة لوجوب توحيد صفوف الأمة لمواجهة الظلم، ولإسقاط الأكاذيب والأساطير التلمودية، وللانتصار للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة التي كادت قوى الاحتلال والاستكبار، والخيانة والعمالة، أن تميتها، ومن بعد إماتتها أن تجعل وحدة الأمة ضربا من الخيال من بعد زرع الفرقة والتفرق فيها.
لهذا، لما تقدم، ولسواه مما سنأتي عليه، كان لإعلان يوم القدس العالمي أثره البالغ في حركة التاريخ خلال العقود الأربعة الماضية، ذلك أنه أسس لحركة مقاومة ضد الاحتلال، كان لها أن تنتج نصرا كاملاً لو لم تلعب الحكومات في الدول العربية والإسلامية دورا سلبيا يمنع الشعوب من التعبير عن غضبها.
ويحول دون وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني والدول العربية القليلة التي ما زالت القضية الفلسطينية قضيتها المركزية، كسورية، التي بقيت وحيدة ربما لسنوات طويلة تحمل القضية، وتتحمل من أجلها الكثير من الأعباء.
لم يكن الدور السلبي للحكومات العربية والإسلامية في منع الشعوب من الإنتصار لفلسطين وشعبها المظلوم فقط، بل إنها لعبت دوراً آخر في التفريط، والخيانة، وفي التآمر على فلسطين وقضيتها، حيث كانت “كامب ديفيد” ١٩٧٩ التي أخرجت مصر من دائرة الصراع، وتركت سورية وحدها في خندق المواجهة مع العدو الصهيوني.
ولذلك فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان التعويض القيم عن خسارة مصر وخروجها واستسلامها الذي نقلها فعلياً إلى الخندق الآخر، فعطل قدرات الأمة، وجعل دعائية مقولات السلام والتفاوض تطغى لتنتج لاحقاً أوسلو أيلول ١٩٩٣، بعدها وادي عربة.
لتدخل القضية الفلسطينية نفقا ما كان من سبيل لاستنقاذها منه سوى انتصار الثورة الإسلامية في إيران، إعلان يوم للقدس، دعم حركات المقاومة، والوقوف إلى جانب سورية التي حاولت أنظمة العمالة العربية عزلها بإنشاء مجالس إقليمية بقيت هي ولبنان خارجها، في محاولة لعزلهما والضغط عليهما، وفي محاولة لإماتة القضية الفلسطينية وتصفيتها.
مجلس للتعاون الخليجي، آخر عربي ضم إلى مصر والسودان اليمن والعراق، وثالث للدول المغاربية، ليغيب بالمقابل مصطلح دول الطوق، وليتلاشى كل معنى للتضامن والعمل المشترك، وليكون من الطبيعي أن يكون أي حديث عن معاهدات للدفاع المشترك إنما الحديث الخيالي الذي لا معنى له، ليترك الشعب الفلسطيني فريسة للاحتلال، وسورية ولبنان تحت الضغط والحصار والتهديدات
أهمية إعلان يوم عالمي للقدس يتأتى من واقع أن القضية الفلسطينية صارت يتيمة، وأصبحت نهبا لأنظمة الخيانة والاستسلام التي انخرطت انخراطا تاما بمشروع تصفية القضية، ولذلك فإن هذا اليوم كان مناسبة للصحوة، ولإحياء القضية، ونصرتها، وما كان أحد من المتخندقين مع الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين يتوقع أن يحدث الفرق والاثر الذي أحدثه.
في السنوات الأولى التي أعقبت ١٩٧٩ صحيح أن زخم المشاركة الشعبية بإحياء يوم القدس العالمي ليس بالمستوى المطلوب والكافي، ذلك للأسباب التي أتى ذكرها، إلا أن هذه المشاركات الشعبية نمت، تطورت، سنة بعد أخرى.
لتشمل عشرات البلدان العربية والإسلامية، ولتسجل هذه المشاركات لاحقاً نزول عشرات الملايين إلى الشوارع بمظاهرات مليونية في بعض البلدان تلبية لنداء القدس والأقصى، وانتصارا للقضية الفلسطينية.
المظاهرات المليونية التي تعم أرجاء العالم العربي والإسلامي في يوم القدس، صارت مع مرور الوقت، الحدث الذي يفرض نفسه، أقوى من أن يمنع بقرار، وربما أحرج النظام السياسي الرسمي في كثير من الأحيان هنا وهناك، في ذلك البلد وذاك.
في محاكاة تطور إحياء يوم القدس العالمي على امتداد العالم العربي والإسلامي، صار من الصعب تجاهل إحياء هذا اليوم في العواصم والمدن الغربية التي توجد فيها جاليات عربية وإسلامية، وإذا كان من الصحيح أن بلدانا كالمملكة السعودية تمنع.
فالصحيح أيضاً أنه حتى فيها وفي بلدان أخرى تمنع التظاهر والتضامن، بات لا يخفى المزاج الشعبي المؤيد لفلسطين وشعبها ومقاومتها ضد الاحتلال الإسرائيلي.
الصبر، الإيمان، والمثابرة، خلال العقود الأربعة الماضية، أثمرت انتصارات استراتيجية كبرى، نقلت القضية الفلسطينية من الموت المخطط له إلى الحياة مجدداً، وهي إذ تضج اليوم بالحياة والحيوية والحضور وسط تزايد مضطرد للمؤيدين والمناصرين والمستعدين للتضحية والفداء لفلسطين والقدس والأقصى، فإن الموعد مع تحريرها واستعادتها لا يتجدد فقط.
بل صار أمرا واقعيا يسعد الكثيرين حول العالم، ويقض مضاجع الصهاينة وداعميهم في الغرب وأميركا، وفي بلدان الخيانة والاستسلام والعمالة التي يتحكم بها نظام سياسي مطبع فاسد مستبد غدار.
بالأمس، قال سيد المقاومة الأمين: إن من أجل القدس، تبنى اليوم جيوش حقيقية، وقوى، ومقاتلون أولوا بأس شديد، مذكرا بمعركة سيف القدس ٢٠٢١، فهل ذلك ينطوي على حرب نفسية يمارسها سماحته ضد الاحتلال وأعوانه.
أم هي إشارة منه أرادها تثبيتا لما تعكس من واقع جديد يمهد الطريق للتحرير والنصر الكبير الذي لن يدع مكانا لمؤامرة، ولا لمساومة، ولا لدعاية جوفاء تدعي سعي هذا وذاك للسلام الزائف الكاذب؟.
إن إشارة الأمين، سيد المقاومة، إلى معركة سيف القدس، ليست إلا الإنذار لا الشعار، الإنذار بما يعنيه ويشتمل عليه من معاني نجاحها في ربط الساحات، وهو ما يعلمه جنرالات الكيان المؤقت، وتتهيبه حكومته، إذ بات الداخل الفلسطيني “أراضي ٤٨” بعلم الجميع شريكاً بالمعركة، بل إن الساحات والجبهات الأخرى لن تبقى ساكنة.
ذلك هو اليوم محل بحث في الكيان اللقيط الذي يعيش هاجس ما يسميه الخطر المتعاظم عليه من الجبهات الخمس التي يعرفها ويسميها، ويحمل ملفاتها إلى واشنطن والغرب بحثاً عن مساعدة من نوع آخر يتوهم أن محاولة تشكيل ناتو عربي سيحميه، أو سيخفف من نسبة الباحثين في مجتمع مستوطنيه عن جنسية أخرى وجواز سفر آخر.
تقول بياناته عنهم أن الزيادة في أعدادهم ترسم مخاطر كبيرة يذوب معها الشعور بالانتماء، ويتضاعف عدد الراغبين بالهجرة، المتدينون، المتطرفون، العلمانيون، كلهم باتوا في سلة واحدة، بعضهم يحزم الحقائب، وآخرون يستعدون.
البيانات التي تشير إلى الهجرة وعدم الشعور بالانتماء، تقابلها بيانات أخرى تتحدث عن انعدام الشعور بالأمن والأمان والاستقرار، فيما تكاد جميع الدراسات التي تصدر عن مراكز البحث ومعاهد الأمن القومي، تكاد تجمع، على أن مسلسل الأزمات والثغرات الداخلية والخارجية، الأمنية والسياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
يرتسم معها واقع صعب ومعقد، إذ لا ثقة بمؤسسات الكيان المؤقت، ذلك مع التآكل المتسارع بقدراته، وعجزه عن اعتماد خطة توفر له حوامل تعدل نسبياً ما تهتك في كل جوانب الحياة والوعي، وما يسمى بالدولة العبرية.
جردة حساب أولية، يجريها الكيان المؤقت، أو رعاته، وعملائه، ستخلص إلى ما يثير الفزع لدى هذه الأطراف مجتمعة.
وأما جردة الحساب التي يراكمها المؤمنون بفلسطين والقدس، من المقاومين على امتداد محور المقاومة، فهي المرئي فيها بوضوح ليس ما تحقق في ٤٣ سنة، وهو عظيم، بل مرئي فيها المصير النهائي، نهايات المسار، نتائج العمل المقاوم، بل وجه المنطقة الجديد .. وإن غدا لناظره قريب.
علي نصر الله