الصّامتون يكتبون التّاريخ ويزوّرون حقائقه
ثَغراتٌ في ثغورِنا المفتوحةِ بعلاماتِ الدّهشة من كلّ غريبِ ودخيل، فالثّغر هو الفم أو المَبْسِـم، بدت على ثغرهِ ابتسامة ساخرة، ويقال: موضعٌ غير محصّنٍ يُخشى هجوم العدو منه وبه.
صراعنا اليوم يحملُ السّخريّة والخشية، السّخريّة من كلّ ما يحيطُ بنا فنتشدّقُ بكلماتٍ دونَ النّظرِ إلى مخاطرها، وأن الكلمة والرّصاصة صنوان، فكم من كلمات دمرت أمماً وقتلت شعوباً، وأزالت أجنحة أحلامٍ محلّقة فتركتها صريعة واقعها مستسلمة للمجهول والخشية منه.
ونتساءلُ هل يكتبُ الصامتون؟ وماذا يكتبون ويزوّرون؟ ونحن الذين ترعرعنا على رنين الكلمة وسماعِ كلام الكبار.
من يتابع التقدّم التكنولوجيّ والعلميّ يجد كلّ يوم ولادة لمولودٍ جديد يحتفى به في مجتمعنا بأفواهنا المفتوحة، وتبدأ الألسن بنسجِ كلمات الدّهشة والاستغراب من عظمةِ ذاك البعيد المبدع والسخريّة من المنجزات المحليّة الضئيلة.
فهل يكتبُ هؤلاءِ عن عظمة شبابنا الذي يبدعُ ويحصد الجوائز العالميّة، وهل استطعنا أن نجعل منهم القدوة والمثل للشباب الذي يعاني ضياعاً، وهو بين مطرقةِ كلام المحيطين وسندانِ كلامِ الصامتين.
يوماً ما كنا نفتخر بلساننا المبين والخطيب المفوّهِ الرصين، ولكن لم ننتبه لسير الركب وانشغلنا عنه بميراثٍ أضعناه لنخسرَ القدوة والمثلَ الأعلى في عقول أطفالنا وشبابنا فلذة أكبادنا.
لقد استسلمَ بعض المثقفين لمقولة درويش وقد نضبت أفكارهم وجفّ مداد محابرهم وفقدوا الثقة بالتغيير ومحاولة النهوض: يا ليتني حجرٌ لا أحنّ إلى أيّ شيء فلا أمسي يمضي ولا الغد يأتي.
وهنا استغلَ الصامتون الضعف فركبوا الواقع حصاناً وامتشقوا الضوء الكاشف ليسلطوه على مواطن ضعفنا ليظهروا صغرنا أمام عملاق أوهامنا الذي عكسوه خيالاً في عقولنا، كم من الساعات التي تُسرق من حياة شبابنا خلف شاشات مضاءة بضوء مصباحهم الكاشف وصمتهم القاتل.
وكم من البرامج المجانية التي توزّع لاستثمار هذا الصمت وتصدير بضاعتهم الفاسدة ونحن نتهافت عليها كالفراشِ حول النار، هل من دراسات لعدد الساعات التي تضيع من عمر شبابنا من دون فائدة وهو يخوض حروباً إلكترونية ويطوّر أسلحة لا تقتل الذبابة التي تهاجم وجهه المتسخ والذي نسي أن يغسله لانهماكه في الذود عن قبيلته الوهميّة والخشية من هجوم العدو منه، وقد تركَ أرضه التي يقيم عليها من دون استثمار أو زراعة.
لقد حاولنا جاهدين حملهم على ظهورنا المتعبة، نجوع ليأكلوا نحارب عنهم في معاركهم في مواجهة الواقع، ونمسح أوجاعنا بابتسامة بلهاء أمامهم، فقست قلوبهم علينا واستسلموا لواقعهم.
حقاً في فمنا ماء وكيف ينطق من في فمه ماء، وكيف نعمل معاً لإخراج هذه الأجيال من بوتقة الخشية والخوف من شبح مستقبل يحاولُ الصامتون خلف شاشاتنا إطفاء ضوء سراج الألباب وقيادة شبابنا كالقطيع إلى مزارعهم وقبائلهم الوهميّة بصمتهم المخيف وضوضاءِ أصواتنا الصاخبة.
اقرأ أيضاً .. تدخل الآباء في اختيار التخصص الجامعي للأبناء يعوق نجاحهم