الأوروبيين يتغنّون باستقطابها.. هجرة العقول تهدد بالتحول إلى “بلد عجوز”
دائما ما تكون “فاتورة الحرب باهظة الثمن”، وسورية كانت كغيرها من الدول التي عاشت الحروب ممّن دفعت “فاتورة غالية وثقيلة”، ولم يقتصر الأمر على الخراب والتدمير ووقوع مئات الشهداء العسكريين والمدنيين ونزوح الملايين، بل لا تزال حتى اليوم تدفع الثمن، حيث تهاجر الكفاءات بوتيرة عالية ومستمرة، وزاد من حدّتها الفقر والوضع المعيشي المتدني خلال الأعوام الأخيرة.
وفي الوقت الذي تخسر فيه البلاد عقولها وأدمغتها يومياً، نجد أن الأوروبيين يتغنون كغيرهم من الدول حتى في المنطقة العربية التي استقطبت مئات آلاف الكفاءات والخبرات السورية كمصر ودول الخليج ولبنان والأردن، معتبرين أنها أفضل استثمار حصلوا عليه خلال السنوات القليلة الماضية، نظراً للنجاحات المبهرة التي يحققها السوريون يومياً والتي عجز عنها شباب الدول المتقدمة.
وفي هذا الإطار، تشير بيانات المكتب الاتحادي للإحصاء في ألمانيا، إلى أن 48 ألف سوري تم تجنيسهم خلال عام 2022، وهو ما يشكل حوالي ثلث المهاجرين المُجنسين 29٪، كما تشير بيانات أخرى إلى تجنيس أكثر من 13 ألف طبيب سوري عام 2022 في مختلف بلدان العالم التي هاجر إليها السوريين.
وفي عام 2010، صدرت دراسة عن جامعة الدول العربية أظهرت أن سورية سابع دولة عربية من حيث هجرة الكفاءات، وذكرت صحيفة “البعث” الرسمية، أنه وبعد 12 عاماً من الحرب، لا شك أنها بالمراتب الأولى نتيجة فشل السياسات الحكومية في استثمار الكفاءات الشابة وكأنهم خرجوا من الحسابات.
اقرأ أيضاً: صفحات وهمية تملأ المنصة الزرقاء.. مواطنون “يستبشرون” خيراً بأخبارها
كما نشرت صحيفة “الأيام” السورية، عام 2020، أنه بلغ عدد أساتذة الجامعات الذي غادروا البلد بين عامي 2011 – 2020 أكثر من 1220 أستاذاً من مختلف الكليات الجامعية، يضاف لهم نحو 150 أستاذاً من حملة درجة الدكتوراه الذي يعملون في مؤسسات مختلفة، فيما يقدّر عدد المهندسين بـ 8521 مهندساً باختصاصات متنوعة، وتشير الإحصاءات إلى أن هناك أكثر من 21480 من حملة الإجازة الجامعية هاجروا أيضاً وهو الرقم الأكبر في عدد الكفاءات المهاجرة، فيما قدرت بعض الإحصائيات عدد من غادر سورية بنحو 17 ألف طبيب، كما تشير الأرقام إلى أن سورية فقدت نحو 80% من حرفها اليدوية.
وفي السياق، قال نقيب أطباء الأسنان في اللاذقية، إن هجرة الأطباء هي التي جعلت مشافينا ومراكزنا الطبية تفتقر للأطباء الاختصاصيين والعامين وخاصة أطباء التخدير، الذي يبلغ عددهم اليوم أقل من 500 طبيباً، بينما حاجة القطر تصل لأكثر من 1500 طبيب تخدير، إضافة إلى أن 70 بالمئة من خريجي طب الأسنان الجدد يهاجرون.
وقال الدكتور “خليل عجمي” رئيس الجامعة الافتراضية السورية، لصحيفة “البعث”، إن أغلب هؤلاء ممن تم تجنيسهم في ألمانيا هم من أصحاب الخبرات والكفاءات والمهارات الذين تعلموا وتدربوا في سورية بكلف عالية تحملتها الدولة، وحصلت عليهم اليوم ألمانيا مجاناً.
وأشار “عجمي”، إلى أن تصدير الكفاءات والقوة البشرية هو أسوأ أنواع التصدير كونه يحوّل سورية إلى بلد ذات اقتصاد ضعيف قائم على المعونات الخارجية حتى ولو كانت من أبنائها، معرباً عن أسفه لجهة أن الحديث عن هجرة الكفاءات، والمطالبة بإيقاف نزيفها بات كالنفخ في قربة مقطوعة، مشيراً إلى أن سنوات الحرب جعلتنا نخسر حاضرنا، واستمرار هذه الحال، عن قصد أو عن سوء تدبير، سيجعلنا نخسر مستقبلنا.
بدورها رأت الدكتورة “نسرين موشلي”، أن سوء التخطيط في إدارة الموارد البشرية هو السبب الأول في دفع الكوادر والكفاءات الشاب والخبيرة للهجرة، مؤكدة أنه لو كان عندنا تخطيط صحيح وإستراتيجية وطنية لتشغيل الشباب ما وصلت معاناة مؤسساتنا إلى هذا الحد المخيف من هجرة الكوادر.
ووصف العديد من طلاب الجامعات، ظاهرة هجرة الكفاءات بالمأساة أو الكارثة، ومنهم من وصفها بالجائحة في هذا البلد المنكوب، معربين عن حزنهم الشديد على خروج الكثير من الشباب المقتدر من ذوي الاختصاصات العليا في الطب والهندسات والصيدلة التي يحتاجها البلد في مرحلة إعادة الإعمار التي طال انتظارها.
وأكدوا أن هجرة الكفاءات هي أسوأ ما يحصل اليوم من تداعيات الحرب على سورية، فبعد أن رعتهم الدولة وحمَّلتهم شهادات هاجروا ليخدموا بها بلاداً كانت ولا تزال عدواً يتآمر علينا.
كما رأى أهل الاختصاص في الاقتصاد والتخطيط، أن مشكلة هجرة الكفاءات لن توقف في سورية طالما العقلية التي تتعامل مع الخريجين في الجامعة وخاصة المتفوقين منهم تنظر إليهم كعبء اقتصادي ولا يجوز مطالبتها باستثمارهم.
وأضاف الخبراء، بأن الأرقام تشير إلى أن هناك نسبة كبيرة من الطلبة يتسربون من الجامعات والمدارس ويهاجرون في عملية خلاص فردي، بعد شعورهم بأن الجهات المعنية لن تقدر كفاءاتهم وخبراتهم بعد التخرج، وسينتظرون كغيرهم سنوات طويلة على قارعة طريق البطالة، مؤكدين أن الوظيفة في مؤسسات الدولة وحتى في القطاع الخاص لم تعد مغرية للشباب نتيجة ضعف الرواتب التي لا توازي غلاء الأسعار المتصاعد الذي أفقد الليرة الكثير من قوتها الشرائية.
وأكدوا بأن سورية مهددة بأن تتحول إلى دولة “عجوز”، بعدما كانت نسبة الشباب فيها تفوق الـ 60% وأكثر، مشيرين إلى أن المطلوب اليوم أن يكون ملف الشباب من ضمن الأولويات بعيداً عن الشعارات والتصريحات والوعود الخلبية، كما يجب البحث عن حلول ناجعة واتخاذ قرارات جريئة تجعل الشباب أكثر رغبة وتمسكاً بالبقاء في الوطن.
وكانت دراسة صدرت عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد”، عام 2018، أشارت إلى أن ثلث أطباء سورية هاجروا، وخمس الصيادلة، ونوهت الدراسة إلى أن أكثر من 900 ألف سوري استقروا في ألمانيا حتى العام 2017، كما يوجد أكثر من 40 بالمئة من هؤلاء من أصحاب المؤهلات العالية، وبحسب الدراسة فإن نسبة السوريين المهاجرين الحاصلين على شهادة التعليم الجامعيّ العالي تتجاوز 35 بالمئة من إجمالي المهاجرين، ووصلت نسبة النقص في أساتذة الجامعات، بجامعتي دمشق وحلب حتى عام 2016 إلى 43.43 بالمئة في جامعة دمشق، و45.48 بالمئة في جامعة حلب.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع